فصل: تفسير الآيات (1- 3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير سورة الانفطار:

وهي مكية بإجماع.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 4):

{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)}
قوله تعالى: {إِذَا السماء انفطرت} أي: انشقَّتْ، {وَإِذَا الكواكب انتثرت} أي: تساقَطَتْ، {وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ} قيل: فُجِّرَ بعضُها إلى بعضٍ، ويحتملُ أنْ يكونَ تَفَجَّرتْ من أعاليها، ويحتملُ أن يكون تفجيرَ تفريغٍ من قيعَانِها فَيُذْهِبُ اللَّهُ ماءَها حيث شاء، وبكلٍ قيل، وبعثرةُ القبورِ: نبشُها عن الموتى.

.تفسير الآيات (5- 7):

{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)}
وقوله سبحانه: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} هو جوابُ {إِذَا} و{نَفْسٌ} هنا اسمُ جنسٍ، وقال كثيرٌ من المفسرينَ في معنى قوله: {مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} إنها عبارةٌ عن جميع الأعمالِ من طاعة أو معصية.
{ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم} رُوِيَ أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَهَا، فقال: «غَرَّهُ جَهْلُهُ»، فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَرْحَمَهُ بِعِبادِهِ، قال الثعلبيُّ: قال أَهْلُ الإشارةِ: إنَّما قَالَ: {بِرَبِّكَ الكريم}، دونَ سائر أسمائِه تعالى وصفاته، كأنه لَقَّنَهُ جَوَابَهُ؛ حتى يقولَ: غَرَّنِي كَرَمُكَ، انتهى، وقرأ الجمهور: {فَعَدَّلَكْ} وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نَظَر إلى الهلالِ؛ قال: «آمنتُ بالذي خلقَك فسوَّاك فَعَدَلَك» وقرأ حمزة والكسائي وعاصم بتخفيفِ الدال، والمعنى عَدَّلَ أعضَاءَك بعضَها ببعضٍ، أي: وازنَ بينها.

.تفسير الآيات (8- 14):

{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)}

وقوله تعالى: {في أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ} ذهبَ الجمهورُ إلى أن {في} متعلِّقة ب {ركَّبك}، أي: في صورةٍ حسنةٍ أو قبيحةٍ، أو سليمةٍ، أو مشوهةٍ، ونَحْو هذا، وما في قوله: {مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ} زائِدَةٌ فيها معنَى التأكيد، قال أبو حيان: {كَلاَّ} رَدْعٌ وزَجْرٌ، انتهى، والدِّينُ هنا يحتمل أن يريدَ الشرعَ، ويحتملُ أن يريدَ الجزاءَ والحسابَ، وباقي الآيةِ واضِحٌ لِمُتَأَمِّلِهِ.

.تفسير الآيات (15- 19):

{يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)}
وقوله تعالى: {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدين} أي: يوم الجزاءِ.
وقوله تعالى: {وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} قال جماعة: معناه: ما هم عنها بغائبين في البَرْزَخِ، وذلك أنهم يرونَ مقاعِدَهم من النارِ غَدْوَةً وعشيَّةً؛ فهم لم يزالُوا مشاهدينَ لَها؛ نسألُ اللَّه العافيةَ في الدارينِ بجُودِه وكرمِه، ثم عظَّم تعالى قدرَ هولِ ذلكَ اليومِ بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين}.

.تفسير سورة المطففين:

وهي مكية في قول جماعة.
وقال ابن عباس وغيره: هي مدنية.
وعنه: نزل بعضها بمكة، ونزل أمر التطفيف بالمدنية.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 3):

{وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)}
قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} الآية، المُطَفِّفُ الذي يُنْقِصُ الناسَ حُقُوقَهم، والتطفيفُ: النُّقْصَانُ، أصله من الشيء الطفيف، وهو النَّزْرُ، والمطفِّفُ إنما يأخذ بالميزانِ أو بالمكيال شَيْئاً خفيفاً، و{اكتالوا عَلَى الناس} معناه قَبَضُوا منهم، و{كَالُوهُمْ} معناه: قَبَّضُوهم، و{يُخْسِرُونَ} معناه: يُنْقِصُونَ.

.تفسير الآيات (4- 6):

{أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)}
وقوله سبحانه: {أَلا يَظُنُّ} بمعنى: يَعْلَمُ ويتحقق، وقال * ص *: {أَلا يَظُنُّ} ذَكَر أبو البقاء أن لا هنا هي النافيةُ دَخَلَتْ عليها همزةُ الاستفهامِ، وليستْ {أَلاَ} التي للتنبيهِ والاستفتاح؛ لأن مَا بَعْدَ {أَلاَ} التنبيهيَّةِ مُثْبَتٌ وهو هنا منفيٌّ، انتهى،، وقيامُ الناس لربِ العالمينَ يومئذٍ، يختلف الناسُ فيه بحَسْبِ منازِلهم، ورُوِيَ أنه يُخَفَّفُ عن المؤمنِ حتى يكونَ على قَدْرِ الصلاةِ المكتوبةِ، وفي هذا القيام هو إلجامُ العَرَقِ للناسِ؛ كما صرَّح به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصحيحِ، والناسُ أيضاً فيه مختلفون بالتخفيفِ والتشديدِ، قال ابن المباركِ في رقائِقه: أخبرنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عن أبي عثمانَ النهدي عن سلمان، قال: تدنى الشمسُ من الناسِ يومَ القيامةِ حتى تكونَ من رُؤوسهم قَابَ قوسٍ أو قابَ قوسَينِ فتُعْطي حرَّ عَشْرَ سنين؛ وليسَ على أحد يومئِذ طِحْرِبة ولا تُرَى فيه عورةُ مؤمِنٍ ولا مؤمنةٍ، ولا يَضّرُّ حرُّها يومئِذٍ مؤمناً ولا مؤمنَة، وأما الآخرون؛ أو قال الكفارُ فَتَطْبُخُهُمْ، فإنما تقولُ أجوافُهم غَقْ غَقْ، قال نعيم: الطحربةُ: الخِرْقة انتهى، ونحوُ هذا للمحاسبي قال في كتاب التوهُّم: فإذَا وَافَى الموقفُ أهْلَ السمواتِ السبعِ والأرضينَ السبعِ؛ كُسِبَتِ الشمسُ حرَّ عَشْرَ سنينَ، ثم أدْنيتْ من الخلائقِ قَابَ قوسٍ أو قابَ قوسينِ، فَلاَ ظِلَّ في ذلك اليوم إلا ظلُّ عرشِ ربِّ العالمينَ، فكم بينَ مستظلِّ بظل العرشِ وبين واقفٍ لحرِّ الشمسِ قد أصْهَرَتْه؛ واشتدَّ فيهَا كَرْبُه وقلقُه، فتوهَّمْ نفسَك في ذلكَ الموقفِ؛ فإنك لا محالةَ واحدٌ منهم، انتهى، اللَّهُمَّ، عَامِلْنَا بِرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ في الدَّارَيْنِ، فَإنَّهُ لاَ حَوْلَ لَنَا وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِكَ.

.تفسير الآية رقم (7):

{كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)}
وقوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كتاب الفجار...} يعني: الكفارَ وكتابُهم يراد به الذي فيه تَحصيلُ أمرهم، وأفعالِهم، ويحتمل عندي أن يكونَ المعنَى وعِدَادُهُمْ وكِتَابُ كونِهم هو في سجينٍ؛ أي: هنالِكَ كُتِبُوا في الأزلِ، واختُلِفَ في {سِجِّينٍ} ما هو؟ والجمهورُ أن سجيناً بناءُ مبالغة من السَّجْن، قال مجاهد: وذلك في صخرة تحت الأرض السابعة.

.تفسير الآيات (8- 26):

{وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)}
وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} تعظيمٌ لأمر هذا السِّجِّينِ وتعجيبٌ منه، ويحتملُ أنْ يكونَ تقريرَ اسْتِفْهامٍ، أي: هذا مما لم تكنْ تعلمُه قَبلَ الوحيِ، و{كتاب مَّرْقُومٌ} على القول الأولِ: مرتفعٌ على خبر إنَّ وعلى القولِ الثاني مرتفعٌ على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوف تقديرُه: هو كتاب مرقوم، ويكون هذا الكلامُ مفسِّراً ل {سِجِّينٍ} ما هو؟، و{مَّرْقُومٌ} معناه: مكتوبٌ لهم بِشَرٍّ، وباقي الآية بَيِّنٌ، ثم أوجَبَ أنَّ مَا كَسَبُوا من الكفرِ والعُتُو قَدْ {رَانَ على قُلُوبِهِمْ} أي: غطى عليها؛ فهُمْ مع ذلك لا يُبْصِرُون رشداً، يقال: رَانَتِ الخمرُ على قلبِ شاربِها، ورَانَ الغَشْيُ على قلبِ المريضِ، وكذلك الموتُ، قال الحسنُ وقتادة: الرّينُ الذَّنبُ على الذنبِ حتى يموتَ القلبُ، ورَوَى أبو هريرةَ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الرجُلَ إذا أذْنَبَ نُكِتَتْ نكتةٌ سَوْدَاءُ في قلبهِ، ثم كذلك حتَّى يَتَغطَّى فذلكَ الرانُ الذي قال اللَّه تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}»، قال الفخرُ: قال أبو معاذ النَّحْوي: الرّينُ سَوَادُ القلبِ من الذنوبِ، والطَّبْعُ أن يُطْبَعَ على القلبِ، وهو أشَدُّ من الرينِ، والإقْفَالُ أشدُّ من الطبعِ؛ وهو أن يُقْفَلَ على القلبِ، انتهى، والضميرُ في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ} للكفارِ أي: هم محجوبونَ لا يَرَوْنَ ربَّهم، قال الشافعي: لما حَجَبَ اللَّهُ قوماً بالسَّخْطِ دَلَّ عَلى أن قوماً يرَوْنَهُ بالرِّضَى، قال المحاسبي رحمه اللَّه في كتابِ توبيخ النفس: وينبغِي للعبدِ المؤمنِ إذا رأى القسوةَ من قلبه أن يعلم أنها من الرّينِ في قلبه فيخافُ أن يكونَ اللَّهُ تعالى لمَّا حَجَبَ قلبَه عنه بالرّينِ والقسوةِ أنْ يحجبَه غَداً عن النظرِ إليه؛ قال تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} إحداهُما تتلو الأخرى؛ ليس بينهما معنًى ثالثٌ، فإنْ اعترضَ للمريدِ خَاطِرٌ من الشيطانِ ليقْتَطِعَه عن الخوفِ من اللَّه تعالى، حتى تحلَّ بهِ هاتانِ العقوبتانِ فَقَال إنما نَزَلَتَا في الكافرينَ؛ فليقلْ فإنَّ اللَّهَ لم يؤَمِّنْ منهما كثيراً مِنَ المؤمنينَ، وقد حذَّر سبحانَه المؤمنينَ أن يُعَاقِبَهُم بما يُعَاقِبُ به الكافرين؛ فقال تعالى: {واتقوا النار التي أُعِدَّتْ للكافرين} [آل عمران: 131] إلى غير ذلكَ من الآيات، انتهى، ولما ذَكَرَ اللَّهُ تعالى أمْرَ كتابِ الفجار، عَقَّبَ ذلكَ بذِكْرِ كِتَابِ ضدِّهِم؛ ليبيِّنَ الفرقَ بين الصِّنْفَيْنِ، واخْتُلِفَ في المَوضِع المعروفِ ب {عِلِّيِّينَ} ما هو؟ فقال ابن عباس: السَّمَاءُ السَّابعَةُ تَحْتَ العَرْشِ، وَروي ذَلِكَ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الضحاكُ: هو سِدْرَةُ المُنْتَهَى، وقال ابن عباس أيضاً: عليونَ: الجنة.
وقوله تعالى: {يَشْهَدُهُ المقربون} يعني الملائِكة؛ قاله ابن عباس وغيره، و{يَنظُرُونَ} معناه إلى ما عندَهم مِن النعيم، والنَّضْرةُ: النعمةُ والرونقُ، والرحيقُ: الخَمْرُ الصافيةُ، و{مَّخْتُومٍ} يحتملُ أنَّه يُخْتَمُ على كؤوسه التي يشْرَبُ بها تَهَمُّماً وتنظفاً، والظاهر أنه مختُوم شربُه بالرائحةِ المِسْكِيةِ؛ حَسْبَمَا فسَّره قوله: {ختامه مِسْكٌ} قال ابن عباس وغيره: خاتمة شربه مسك، وقرأ الكسائي: {خَاتَمُهُ مِسْكٌ}، ثم حرَّضَ تعالى على الجنةِ بقوله: {وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون}.

.تفسير الآيات (27- 28):

{وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)}
وقوله تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ} المِزَاجُ: الخلطُ، قال ابن عباس وغيره: {تَسْنِيمٍ}: أشْرَفُ شرابٍ في الجنةِ، وهو اسْمٌ مذكرٌ لِمَاءِ عينٍ في الجنةِ، وهي عين يشرب بها المقربون صرفاً ويُمْزَجُ رحيقُ الأبرارِ بها؛ وهذا المعنى في صحيح البخاري، وقال مجاهد ما معناه: أن تسنيماً مصدَرُ من سَنَّمْتُ: إذَا عَلَوْتُ، ومنه السَّنَامُ، فكأنه عينٌ قَدْ عَلِيَتْ على أهل الجنةِ فهي تَنْحَدِر، وقاله مقاتل، وجمهور المتأولينَ أنَّ منزلةَ الأبرار دونَ منزلة المقربينَ، وأن الأبرارَ هم أصحابُ اليمين، وأن المقربينَ هم السابقون.
وقوله: {يَشْرَبُ بِهَا} بمعنى يْشَرَبُها.

.تفسير الآيات (29- 34):

{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)}
وقوله سبحانه: {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ} يعني في الدنيا، {يَضْحَكُونَ} من المؤمنينَ، رُوِيَ أن هذه الآيةَ نَزَلَتْ في صناديدِ قريشٍ وضَعَفَةِ المؤمنين، والضميرُ في {مَرُّواْ} للمؤمنينَ ويحتملُ أن يكونَ للكفارِ، وأما ضميرُ {يَتَغَامَزُونَ} فهو للكفارِ؛ لا يحتملُ غيرَ ذلك، و{فاكهين} أي: أصحابُ فُكَاهَةِ وَنَشَاطٍ وسرورٍ باسْتِخْفَافِهم بالمؤمنين، وأما الضميرُ في {رَأَوْهُمْ} وفي {قَالُواْ} فقال الطبريُّ وغيره: هو للكفارِ، وقال بعضُهم: بل المعنى بالعَكْسِ، وإنمَا المعْنَى وإذا رأى المؤمنونَ الكفَّارَ قالوا: {إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ}، وما أُرْسِلَ المؤمِنونَ حافِظِينَ على الكفَّارِ، وهذا كلَّه مَنْسُوخٌ على هذا التأويل، * ت *: والأول أظهر.

.تفسير الآيات (35- 36):

{عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)}
وقوله تعالى: {عَلَى الأرائك يَنظُرُونَ} أي: إلى أعدائهم في النار، قال كعب: لأهل الجنةِ كُوًى ينظرون منها، وقال غيره: بينهم جِسْمٌ عظيم شَفَّافٌ يرونَ معه حالَهم، * ت *: قال الهرويُّ: قوله تعالى: {عَلَى الأرائك يَنظُرُونَ}، قال أحمد بن يحيى: الأريكَةُ: السريرُ في الحَجَلَةِ ولا يسمى مِنْفَرِداً أريكةً، وسمعتُ الأزهريَّ يقولُ: كل ما اتكئ عليه فهو أريكةٌ، انتهى، {هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} أي: جزاءَ ما كانوا يفعلون، و{هَلْ ثُوِّبَ} تقريرٌ وتوقيفٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وأمَّتهِ.

.تفسير سورة الانشقاق:

وهي مكية بلا خلاف.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 5):

{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)}
قوله تعالى: {إِذَا السماء انشقت} الآية، هذه أوْصافُ يوم القيامةِ {وَأَذِنَتْ} معناه: اسْتَمَعَتْ وسَمِعَتْ أَمْرَ ربِّها؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «ما أذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ أَذَنَهُ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بالقُرآنِ»، و{حُقَّتْ} قال ابن عباس: معناه: وحُقَّ لها أنْ تَسْمَع وتطيع، ويحتملُ أن يريدَ: وحُقَّ لها أن تنشقَ لشدةِ الهولِ وخوفِ اللَّه تعالى، ومدُّ الأرْضِ هي إزالةُ جبالِها حتى لا يبقى فيها عوجٌ ولا أمْتٌ، وفي الحديث: «تُمَدُّ مَدَّ الأَدِيمِ»، و{وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} يعني: من الموتَى؛ قاله الجمهورُ. وخَرَّج الختلي أبو القاسمِ إسحاقُ بن إبراهيم في كتاب الدّيباج له بسندهِ عن نافعٍ عن ابن عمرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: {إِذَا السماء انشقت وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} قال: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقَّ عَنْهُ الأَرْضُ فَأَجْلِسُ جَالِساً في قَبْرِي، فَيُقْتَحُ لِي بَابٌ إلَى السَّمَاءِ بِحِيَالِ رَأْسِي حتى أَنْظُرَ إلَى العَرْشِ، ثُمَّ يُفْتَحُ لي بَابٌ مِنْ تَحْتِي؛ حتى أَنْظُرَ إلَى الأَرْضِ السَّابِعَةِ؛ حتى أَنْظُرَ إلى الثرى، ثُمَّ يُفْتَحُ لي بَابٌ عَنْ يَمِينِي حتى أَنْظُرَ إلَى الجَنَّةِ وَمَنَازِلِ أَصْحَابِي، وَإنَّ الأَرْضَ تَحَرَّكَتْ تَحْتِي فَقُلْتُ: مَا لَكِ أَيَّتُهَا الأَرْضُ؟ قَالَتْ: إنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُلْقِيَ مَا في جَوْفِي، وأنْ أَتَخَلَّى؛ فَأَكُونَ كَمَا كُنْتُ؛ إذْ لاَ شَيْءَ فِيَّ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}، {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي: سَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَسْمَعَ وَتُطِيعَ»، الحديثَ، انتهى من التذكرة، و{تخلّت} معناه خَلَّتْ عَمَّا كَانَ فيها لَمْ تَتَمَسَّكْ منهم بشيء.

.تفسير الآيات (6- 12):

{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)}
{ياأيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ...} الآية، الكادحُ: العاملُ بشدّةٍ واجتهادٍ، والمعنى: إنَّك عامل خيراً أو شراً، وأنتَ لا محالةَ ملاقِيه، أي: فكنْ على حَذَرٍ من هذهِ الحالِ، واعملْ صالحاً تَجِدْه، وأما الضميرُ في {مُلاَقِيهِ} فقال الجمهور: هو عائدٌ على الربّ تعالى، وقال بعضُهم: هو عائدٌ على الكَدْحِ * ت *: وهو ظاهرُ الآيةِ، والمعْنَى ملاقٍ جزاءَه، والحسابُ اليسيرُ: هو العَرْضُ؛ ومن نُوقِشَ الحسابَ هَلَكَ؛ كذا في الحديث الصحيح، وعن عائشةَ: هو أن يعرفَ ذنوبَه ثم يُتَجَاوَزَ عنْه، ونحوُه في الصحيح عن ابن عمر، انتهى، وفي الحديث عن عائشةَ قالتْ: سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ في بَعْضِ صَلاَتِهِ: «اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَاباً يَسِيراً»، فَلَمَّا انصرف؛ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْحِسَابُ اليَسِيرُ؟ قال: «أَنْ يَنْظُرَ في كِتَابِهِ وَيَتَجَاوَزَ عَنْهُ؛ إنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَا عَائِشَةُ يَوْمَئِذٍ هَلَكَ، وَكُلُّ مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةَ تَشُوكُهُ»، قال صاحب السلاح: رواه الحَاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ، وقال: صحيحٌ على شَرْطِ مُسْلِمٍ، انتهى، ورَوَى ابن عُمَرَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ في الدُّنْيَا، هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ حِسَابَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ»؛ قال عِزُّ الدينِ بنُ عَبدِ السَّلاَمِ في اختصاره لرعاية المحاسبي: أجمع العلماءُ على وجوبِ محاسَبَةِ النفسِ فيما سَلَفَ من الأعمال وفيما يُسْتَقْبَلُ منها، «فالْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وتمنى عَلَى اللَّهِ»، انتهى.
{وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ} أي: الذين أعدَّهمُ اللَّه لهُ في الجنةِ، وأما الكافر فرُوِيَ أنَّ يَدَه تدخُلُ من صَدْرِه حتَّى تَخْرُجَ من وراءِ ظهرِه فيأخذَ كتابَه بِها.
و{يَدْعُواْ ثُبُوراً} معناه: يصيحُ مُنْتَحِباً: وا ثبوراه؛ وا حزناه، ونحوه هذا، والثبورُ اسْمٌ جامع للمكارِه، كالويلِ.